أردوغان.. آخر قياصرة البوسفور

مرت على بلاد الأناضول أربع حقب من الزمن تدخلت فيها الدولة بشكل مباشر في الشؤون الدينية واستخدمت الدين كأداة لتحقيق أهدافها. وفي كل حقبة من هذه الحقب الأربع، كان هناك قيصر روماني يتربع على عرش البوسفور، وهو المضيق الذي يفصل أوروبا عن آسيا في إسطنبول.
الأول هو ثيودوسيوس الأول، الذي نُصب إمبراطورا للدولة الرومانية في الفترة بين 379 و395 قبل الميلاد ويعود له الفضل في إنهاء النزاعات الطائفية بين أتباع الديانة المسيحية من خلال إعلان الأرثوذكسية الديانة الرسمية للدولة وحظر جميع المعتقدات والمذاهب والأديان الأخرى. كما رفض ادعاء الكاهن الإسكندري أريوس بأن “السيد المسيح ليس خالدا وأبديا مثل الله الذي خلقه رجلا لينقذ العالم”.
وبعد تفكك الإمبراطورية الرومانية، انضوت الممالك المركزية التي تأسست في أوروبا الغربية تحت جناح الكنيسة الكاثوليكية. أما في الإمبراطورية البيزنطية، فقد أصبحت المسيحية الأرثوذكسية مؤسسة رسمية وباتت الكنيسة مرتبطة بالدولة. وأضحى الدين أحد الأدوات المستخدمة في حماية وحدة أراضي الإمبراطورية البيزنطية، بل وتوسعها كذلك.
ويمكن القول إن الدولة العثمانية قامت على التراث المادي والثقافي للإمبراطورية البيزنطية حيث لم يكتفِ العثمانيون بفرض سيطرتهم على الأراضي البيزنطية، بل واقتبسوا منهم أيضا الفلسفة الحاكمة لإمبراطوريتهم السابقة لكي يقيموا دولة قوية وراسخة. وبعدما أتمم انتصاره على الإمبراطورية البيزنطية عام 1453، عكف محمد الثاني الفاتح، الذي أضاف إلى ألقابه الرسمية لقب “القيصر الروماني”، على تحديث أسلوب إدارة الدولة العثمانية عبر إصدار لائحة لقواعد الحكم. ونص هذا القانون الإداري الجديد على إدماج القادة الدينيين في الجهاز البيروقراطي للدولة، تماما مثلما كانت تفعل الإمبراطورية البيزنطية، وأصبحت أعلى مؤسسة دينية في البلاد، متمثلة في منصب شيخ الإسلام، على رأس العلماء المسلمين في أنحاء الإمبراطورية، وهو ما منحها بالتالي صفة رسمية في الدولة، بينما فقد رجال الدين استقلاليتهم وأصبحوا بالأحرى موظفين مدنيين.
وعلى مدار تاريخ الدولة العثمانية الذي استمر لـ600 عام، لم تكن العلاقة بين الدين والدولة على نفس الوتيرة من الثبات دائما. ويمكن تقسيم الاختلافات بين الجانبين إلى ثلاث فترات.
الفترة الأولى، التي استمرت حتى ما يسمى بإصلاحات التنظيمات العثمانية في عام 1839، تجسد وحدة الدين والدولة أو ما يمكن تصنيفه على أنه زمن “عمل الدولة لصالح الدين”. وذلك لأن العلاقة بين الدين والدولة حينئذ يمكن وصفها بأنها كانت أحد دواعي المصلحة العليا للدولة العثمانية. وفي إطار هذه المدرسة الفكرية، كان من واجب الإدارات العثمانية ضمان الحفاظ على الإسلام ونشره. وعلى الرغم من أن هذا التفاهم يعترف بأهمية الدين باعتباره أساسا لوجود الدولة، إلا أنه في نفس الوقت لا يزال يعطي الأولوية لها. وذلك لأن الدولة إذا لم تكن موجودة، فإن الدين سيختفي معها.
وأدت إصلاحات التنظيمات إلى بزوغ الفترة الثانية، والتي شهدت تصدع الروابط بين الدين والدولة وصعود إدارة مركزية علمانية على النمط الأوروبي الغربي. وفي هذه الفترة، جرى تأسيس نظام مزدوج يقبل فصل الدين عن الدولة، لكن هذا النظام لم يدم طويلا.
ومع انتهاء حقبة التنظيمات، جاء ثاني القياصرة الرومان الذين نحن بصددهم في هذا المقال وهو عبد الحميد الثاني الذي وصل إلى سدة الحكم في عام 1876. واعتمد عبد الحميد منذ البداية على انتهاج سياسة تروج للوحدة الإسلامية بهدف استغلال المشاعر الدينية وتأمين بقاء الدولة. ووفقا لشهادات من علماء إسلاميين عاصروا فترة حكمه، فهو لم يكن متمسكا بالقيم الإسلامية بقدر ما كان يستخدم الإسلام لأهدافه السياسية الخاصة. وكان هذا هو رأي العديد من المفكرين الإسلاميين البارزين مثل محمد عاكف ومحمد حمدي يازير وسعيد نورسي. لكن إسماعيل حقي ذهب إلى أبعد من ذلك في شهادته عن عبد الحميد التي أصدرها بعد الإطاحة به.
إذ قال “يا له من شيطان ملعون! كان سيحرق كل شيء بالكامل دون أي اكتراث بالبشر. كما كان على وشك أن يقضي على أصدقائه ممن يتمتعون بحس سليم حتى يتمكن من حكم البلاد كما يحلو له ويرتكب الفظائع ويجني ما زرعه بالاستبداد. كانت هذه هي خطته”.
وفي الفتوى التي أدت لخلع عبد الحميد من منصبه، اتهم اثنان من الموقعين، شيخ الإسلام محمد زياد الدين والمفتي حجي نوري، السلطان بمخالفة الشريعة الإسلامية. وكان على رأس انتقادات الإسلاميين لعبد الحميد تهميشه للفقهاء وتدهور المستوى التعليمي في المدارس الدينية. كما تضمنت قائمة الاتهامات ضد عبد الحميد أنه معارض للدين وللحياة الدينية بشكل عام. وعلى الرغم من كونه الخليفة، أي زعيم العالم الإسلامي بأسره، فقد تم اتهامه بخيانة دينه وبأنه عدو للإسلام والجماعات الإسلامية.
وعلى النقيض من إسلاميي اليوم، كان للإسلاميين في ذلك الوقت آراء سلبية عن عبد الحميد. وفي إثبات واقعي للنظرية التي تقول إن تباعد المسافة الزمنية والمكانية يساعد على تشويه الحقيقة، نجد أن المؤرخين والمفسرين الأيديولوجيين الذين يتناولون سيرة عبد الحميد اليوم يغدقون عليه بالثناء. ومع ذلك، كان لدى معاصريه صورة أكثر واقعية عن دوافعه وأفعاله. فعبد الحميد لم يكن يوما قائدا إسلاميا، وإنما كان زعيما يستخدم الدين لتحقيق أهدافه السياسية.
ونتيجة للأزمات المتواصلة، انهارت الإمبراطورية العثمانية لتفسح المجال للجمهورية التركية في صورتها المعاصرة. لكن روح القياصرة التي اعتقد كثيرون أنها ماتت ودفنت في أعماق التاريخ كانت لا تزال حية بقوة في إرث بلاد الأناضول، لتسكن وقتها جسد مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة والقيصر الثالث في هذا التحليل. وقد حرص مصطفى كمال لدى إنشائه نظام حكومته الجديدة على رسم دور مهم للدين داخل الدولة.
يقول المؤرخون إن أتاتورك تأثر بالفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي بزغت أفكاره في القرن الثامن عشر، وكان روسو وأسلافه من الفلاسفة الأوروبيين مثل مكيافيللي وهوبز ومونتيسكيو متأثرين بالتجارب التاريخية لثيودوسيوس.
واهتم الفلاسفة مثل روسو بتأثير الدين على المجتمع ودوره في تشكيل وعي أفراده، ونظروا إلى الدين باعتباره عاملا يمكن أن يساعد الحكومة على إدارة شؤون الدولة. ووفقا لروسو، فإن من المهم أن يكون للمواطنين دين رسمي يتم تحديده من جانب الدولة ومن أجلها، على أن يعمل هذا الدين على تعزيز احترام المواطنين للواجبات المدنية والمساعدة في تأمين النظام الاجتماعي. ويجوز بالتالي للدولة إجبار جميع المواطنين على اعتناق هذا الدين الرسمي ومعاقبة غير المؤمنين به.
وشكلت هذه الآراء، التي وضعها روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)، أساس علاقة كل من أتاتورك وتركيا بالدين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أتاتورك استهل جهوده الإصلاحية بإنشاء وزارة للشؤون الدينية. وفي إطار جهوده الإصلاحية كذلك، تم إغلاق الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وأصبح وزير الشؤون الدينية مسؤولاً عن إدارة جميع الأنشطة والمنظمات الدينية. وقد قيل بالفعل إن الغرض من هذه الوزارة هو غلق الباب أمام تعدد التفسيرات الدينية واختلافها.
واعتمدت تركيا المذهب الحنفي السني من بين مذاهب الفقه الإسلامي، وأعادت تشكيل خدماتها الدينية بما يتماشى مع هذا المذهب، فيما تم إجبار غير المسلمين خارج إسطنبول على الخروج من تركيا من خلال عمليات لتبادل السكان، وأفضل مثال على تلك السياسة هم الأتراك المسيحيون من مدينة كارامان في وسط الأناضول والذين تم طردهم إلى اليونان. أما المسيحيون الذين كانوا يعيشون في منطقة البحر الأسود فتحولوا إلى الإسلام بشكل تدريجي وممنهج. كما يذكر التاريخ أن المذابح التي ارتكبتها الدولة ضد أفراد طائفة المسلمين العلويين الذين كانوا يسكنون مدينة ديرسم بجنوب شرق البلاد كانت نتيجة مباشرة لانحراف العلويين عن الدين الذي حددته الدولة. وللمفارقة فقد ارتكبت مذابح مماثلة ضد العلويين في عهد السلطان سليم الأول في القرن السادس عشر استنادا إلى نفس النهج في التفكير: فكرة الدين الرسمي.
وبعد فترة فاصلة قصيرة، بدأت روح ثيودوسيوس تجوب تركيا مرة أخرى لتستقر بعد حين في رجب طيب أردوغان، آخر القياصرة الرومان في بلاد الأناضول. فلسنوات عدة، استخدم أردوغان ولا يزال يستخدم الدين لأغراضه السياسية الخاصة. والنظام الذي قدم من أجل تأسيسه الغالي والنفيس لا يمت للفكر السياسي الإسلامي بصلة، إذ أن الفكر السياسي الإسلامي يرتكز على مبدأ إرساء العدل من خلال انتهاج الشورى في العمل. لكن للأسف، في عهد أردوغان، تمت الإطاحة بالنظام البرلماني الذي كان يعتمد إلى درجة ما على هذا المبدأ، وعوضا عنه عمد إلى ترسيخ سلطته بشكل عنيف من خلال بناء إمبراطورية في صورة نظام رئاسي على الطراز التركي. أما المؤسسات القضائية، التي يؤكد الفكر السياسي الإسلامي على ضرورة فصلها عن السلطة التنفيذية، بل وحيازتها لسلطة تقديم السلطة التنفيذية للمحاكمة عند الضرورة، فقد خضعت لسيطرة القصر الرئاسي، مما وجه ضربة قاضية للنظام القضائي في البلاد. وأصبح مما لا شك فيه الآن هو أن النظام الجديد لا يعدو سوى كونه مملكة لا أساس لها في الإسلام.
وما يؤكد هذه النظرية هو الطريقة التي يتعامل بها أردوغان مع أولئك الذين يرفضون الدين الرسمي للدولة، حيث لم تسلم من بطش الدولة بعض الجماعات الدينية التي لا تشاركها نفس الديانة، وتختار بدلا من ذلك أن تعيش وفقا لتفسيراتها الدينية الخاصة، فتعرضت عقابا لذلك لمصادرة ممتلكاتها وإغلاق مؤسساتها ووسائل الإعلام الخاصة بها والزج بأتباعها في السجون.
وهذا كله من فعل آخر قياصرة البوسفور.
فمن سيكون التالي؟
يمكن قراءة المقال باللغة الإنكليزية أيضا: