يبدو أن الحكومة الإسلامية في تركيا قد اتخذت بالفعل قرارا بمصادرة ممتلكات بعض الفئات من السكان، إذ ألمح أستاذ الفقه المؤيد للحكومة هايرتين كارامان في مقال له بصحيفة (يني شفق) إلى وجود فتوى من القرن الثالث عشر تجيز للسلطات فعل ذلك.
وكتب كارامان في مقاله إن نص الفتوى يقول “إذا كانت الضرورة تجبر الفرد على وضع يده على ممتلكات أشخاص آخرين، فإن هذا الفعل مسموح به. وفي الواقع، إذا كان الفرد يواجه الموت جوعا أو بسبب البرد أو القيظ، فإنه ليس فقط يجوز له ذلك، بل وعليه أن يضع يده على هذه الممتلكات لتلبية احتياجاته. وإنه لمن الأهم من ذلك هو تلبية احتياجات المجتمع بما يشمله من رعايا الله المختارين بدلا من تلبية احتياجات فرد واحد”.
وقد يفترض المرء أن كارامان يحسب نفسه بين رعايا الله المختارين. لكن على أي حال، فقد أصدر الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يتمتع بصلاحيات تنفيذية واسعة النطاق منذ انتخابات الشهر الماضي، مرسوما رئاسيا بإنشاء لجنة تنسيق الشؤون الاقتصادية في ظل حالة الطوارئ وكذلك لجنة لتقييم قرارات مصادرة الأصول. وهي خطوات ليست بالجديدة على تركيا. ففي نهاية المطاف، يعد وضع اليد على الثروات العقارية والمالية إجراء بات تقليديا لكل نظام جديد يصل إلى سدة الحكم في بلاد الأناضول.
لكن المشكلة أن الأموال والعقارات المُصادَرة لا تذهب في الأغلب لخزانة الدولة، وإنما تذهب لأرصدة وحيازة طبقة ثرية جديدة تتشكل تحت جناح كل نظام جديد وتدعمه بعد ذلك.
وكما قال كارامان، فإن الهدف هو دعم مجتمع مكون من رعايا الله المختارين.
وقبل محاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016، كتب عالم الاجتماع والكاتب الإسلامي علي بولاتش في مقال له على صحيفة (زمان)، والتي أُغلقت منذ ذلك الحين، أن “مصادرة الممتلكات هو مظهر من مظاهر عصر الجاهلية قبل الإسلام”. وواجه بولاتش جراء ذلك عاصفة من الانتقادات من وسائل الإعلام الموالية للحكومة التي أصرت على أن مصادرة ممتلكات حركة فتح الله غولن، وهو داعية إسلامي كان حليفا سابقا للحكومة وتتهمه الآن بتدبير محاولة الانقلاب، لم يكن قرارا ضروريا فحسب، بل وكذلك له ما يدعمه من أمثلة من التاريخ الإسلامي.
ومع فتح المجال لهذه الخطوة، وجدت الحكومة في مصادرة ممتلكات أعضاء حركة غولن وسيلة فعالة لاستهدافهم في أعقاب محاولة الانقلاب.
وطبقا للغزالي، وهو عالم فقه إسلامي بارز كان أول من أبرز الحقوق الأساسية التي يكفلها لإسلام، فإنه من واجب الدولة حماية خمسة مكونات أساسية، ألا وهي الدين والحياة والفكر والنسل والملكية. وفي الدولة الإسلامية الأولى بالمدينة المنورة (622-661)، صادرت الدولة فقط ممتلكات المسؤولين الحكوميين الذين حصلوا على ثرواتهم بشكل غير نزيه ولم تضع يدها أبدا على ملكية خاصة.
ويمكن الاطلاع على الأمثلة الأولى من مصادرة الممتلكات خلال فترة حياة النبي محمد (571-632). ففي عهده، صادرت خزانة الدولة الهدايا التي كان يتلقاها الحاكم. وفي عهد عمر، ثاني خلفاء المسلمين (634-644)، أُجبر بعض الولاة الذين اختلسوا أموالا من الضرائب أو أهملوا في واجباتهم الحكومية أو قبلوا هدايا ورشى على التخلي عن ممتلكاتهم إلى الدولة. فيما لم تتضمن المراجع والمصادر المتوفرة عن هذه العصور أي معلومة عن حادثة استيلاء غير مشروع على الممتلكات الخاصة.
ومع ذلك، ففي عصر الدولتين الأموية (662-750) والعباسية (750-1258)، ولاحقا في الدولة العثمانية، اعتمدت الدولة مرارا على مصادرة الممتلكات بهدف إضعاف المعارضين وإقصائهم.
فعلى سبيل المثال، استولى معاوية بن أبي سفيان بالقوة على مقر الخلافة من الحسن، حفيد النبي محمد، وقضى على حكومة المدينة ليؤسس الإمبراطورية الأموية على أنقاضها، وقام بنقل العاصمة من المدينة المنورة إلى دمشق. وفي عهد ابنه يزيد، تم ذبح أحفاد النبي ودك المدن المقدسة في مكة والمدينة بالمجانيق بدعوى القضاء على المتمردين، وكذلك هدم المنازل المملوكة لعائلة النبي. وقد تجاوزت هذه التدابير أضرار مصادرة الممتلكات بكثير، إذ كانت موجهة في الأساس نحو تدمير كل ما له صلة بالنظام القديم. ومع مرور الوقت، أصبحت مصادرة الممتلكات وسيلة مهمة للدولة الأموية لترهيب خصومها والانتقام منهم، كما اضطر العديد من الحاكمين السابقين إلى التخلي عن ممتلكاتهم.
ومن بعدهم، استخدم العباسيون مصادرة الممتلكات لقمع المعارضة ولم يكتفوا بوضع يدهم على ممتلكات الأفراد فحسب بل وأصول عائلات بأكملها. وبدلا من إيداع هذه الأصول في خزانة الدولة، قامت الحكومة بتوزيعها على الدائرة المقربة من السلطان. كما اعتاد العباسيون على الاستيلاء على ممتلكات التجار والعائلات الثرية لتمويل الحملات العسكرية وسد عجز الموازنة.
أما في عصر الإمبراطورية العثمانية، تم اللجوء إلى مصادرة الممتلكات بشكل واسع بدءا من عهد محمد الثاني الفاتح حتى فترة ما يسمى بإصلاحات التنظيمات العثمانية، وهي حقبة تمتد من منتصف القرن الخامس عشر حتى أوائل القرن التاسع عشر. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك هو مصادرة نظام السلطان محمد لممتلكات عائلة شاندارلي التي كانت تتمتع بنفوذ سياسي كبير لدرجة أنه كان لا يفوقها في التأثير على السلطة سوى العثمانيين أنفسهم. وأمر السلطان محمد بإعدام أحد أبرز أفراد عائلة شاندارلي، وهو الصدر الاعظم خليل باشا، وصادرت الدولة جميع ممتلكاته، وهو ما أدى إلى إضعاف هذه الأسرة بشكل كبير وإزالة تهديدها للسلالة العثمانية.
وبعد عهد السلطان محمد، صودرت ممتلكات جميع المسؤولين الحكوميين، باستثناء من ينتمون للمؤسسة الدينية. إذ ترسخ في هذا الوقت تقليد سياسي عثماني تعود بموجبه الممتلكات التي يملكها المسؤولون الحكوميون إلى المنصب وليس إلى الفرد. وعندما أصبحت مصادرة الممتلكات أكثر انتشارا وتحولت إلى مصدر دخل للخزانة، بدأت إدارات الولايات العثمانية في الاستيلاء على ممتلكات الأعيان في الريف من أجل تغطية نفقاتها وكسب رضا السلطان بالضرائب والهدايا.
وكانت أكبر عملية مصادرة للملكية في التاريخ العثماني قد حدثت في عهد السلطان محمود الثاني الذي حكم البلاد في أوائل القرن التاسع عشر في الفترة التي سبقت عصر التنظيمات. إذ كان موت أي من السادة الإقطاعيين سببا كافيا لحكومته للاستيلاء على ممتلكات المتوفى. كما اعتاد السلطان محمود على استخدام مصادرة الممتلكات كوسيلة لتعزيز مركزية الحكومة وإضعاف الأعيان الإقطاعيين. كما شهد عصره مصادرة الحكومة لأول مرة للأوقاف الدينية، وكانت مؤسسات الطريقة البكتاشية الصوفية هي أولى الضحايا.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، إذ امتدت قائمة ضحايا هذه الحملة لتشمل أيضا بدرخان بك، زعيم قبيلة بوتان الكردية، والتي أنهت الدولة الحكم الذاتي الممنوح لها وصادرت ممتلكاتها بعد أن فعلت الشيء نفسه مع قبيلتي سوران وبابان. ومع ذلك، قاتل أبناء بدرخان وأحفاده بشراسة لاستعادة ممتلكاتهم. وفي الواقع، فإن الحركة القومية الكردية التي بدأت في إسطنبول تستمد جذورها من نضال هذه العائلة ضد الحكومة، ولعل نشاط جلادت بدرخان، أحد رواد الصحافة والثقافة الكردية الحديثة، من أبرز الأمثلة على ذلك.
ولم يكن جميع رجال الدولة راضين عن هذه الممارسات، فقد انتقدها العديد منهم بداعي أنها علامة على الاستبداد وانعدام سلطة القانون. وكان من بينهم أمين الخزانة العثماني دفتردار محمد باشا في القرن السابع عشر الذي أعرب عن قلق نخبة المثقفين تجاه لجوء الدولة إلى مصادرة الممتلكات والتي انتقدها قائلا إن المصادرة الجائرة لممتلكات الناس من شأنها أن تضر بخزانة الدولة وتتسبب في انهيار الدولة. كما قال الفقيه أحمد جودت باشا، وكان رجل دولة ذو شأن في عصر التنظيمات، إن مصادرة الممتلكات يخالف قواعد الإسلام.
وفيما تغير وجه الحياة في أوروبا بفضل الثورة الصناعية، ركز السلاطين العثمانيون بدلا من ذلك على الاستيلاء على ممتلكات الأثرياء، مما أعاق تراكم رأس المال المملوك للأشخاص. وأدى غياب رؤوس الأموال الكبيرة بدوره إلى الحيلولة دون تطور الصناعة في الإمبراطورية العثمانية لتتخلف بلاد الأناضول عن نظيراتها في الأمم. وأدى ذلك في نهاية الأمر إلى تحول الإمبراطورية العثمانية إلى مستعمرة وسوق للدول الأوروبية. وبحلول الوقت الذي حظرت فيه إصلاحات التنظيمات مصادرة الممتلكات في منتصف القرن التاسع عشر، كان قد فات الاوان بالفعل.
ولم يقتصر تقليد مصادرة الممتلكات على العالم الإسلامي فحسب. فمثلما حدث في كل دول العالم القديم، استعانت أوروبا وأميركا بهذه الممارسات لأسباب مختلفة. ويعود إضفاء طابع حكومي وشرعي على مصادرة الممتلكات في أوروبا تاريخيا إلى القانون الروماني. وفي العصور الإقطاعية، عملت الإمبراطوريات الأوروبية على مصادرة الممتلكات الخاصة أيضا. وفي العصر الحديث، صودرت ممتلكات المتمردين خلال الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865) كإجراء حربي. لكن المثال الأبرز لهذه الممارسات في أوروبا حدث تحديدا في ألمانيا. ففي عهد النازية (1933-1945) وكجزء من حملة الهولوكوست، صادرت الدولة ممتلكات اليهود بشكل منهجي. واليوم، لا تلجأ الدول عادة إلى مصادرة الممتلكات إلا في إطار مكافحة الإرهاب ومنع تمويل أنشطته.
أما في تركيا الحديثة، فإن تاريخ مصادرة الممتلكات يستحق بجدارة إجراء دراسة شاملة وقائمة بذاتها عن أسبابها وتأثيراتها، بدءا من ترحيل الأرمن عام 1915، ومرورا بفرض ضريبة الثروة في عام 1942 التي نقلت رأس المال من غير المسلمين إلى الطبقة البورجوازية المسلمة، وحتى يومنا هذا في أعقاب محاولة الانقلاب في 15 يوليو.
يمكن قراءة المقال باللغة الإنكليزية أيضا: