يرى الباحث السياسي والمنظر القومي بنديكت أندرسون أن الأمة هي جماعة سياسية متخيلة ومبنية على أساس اجتماعي، ميزت نفسها عن غيرها بسبب بعض الخصائص المشتركة في نطاق الحدود التي تشعر أن لها الهيمنة فيها. لذلك، فالسلطة الدينية – أي حكم المؤسسات الدينية على الشعوب – تتنافى مع القومية.
وبينما أنشأت الحركات القومية دول أوروبا الحديثة، فقد خسرت الكنيسة الكاثوليكية هيمنتها وتم إحلال لغات وطنية محل اللاتينية. ومر تحول تركيا، بسقوط الخلافة، إلى الحروف اللاتينية وتعديل لغتها بعملية مشابهة.
وقُدمت الحركة القومية الأولى في تركيا على يد جمعية الاتحاد والترقي التي سيطرت على الإمبراطورية العثمانية في أواخر عهدها قبل إعلان الجمهورية في 1923. وقال ضياء غوك ألب المفكر وعالم الاجتماع التركي في مطلع القرن العشرين وأحد منظري القومية التركية الأوائل إن القومية التركية كانت نتيجة طبيعية لوهن الإمبراطورية العثمانية وضعف الإسلام.
كان التغير في أيديولوجية الدولة أحد النتائج غير المقصودة للهجرة الواسعة من أطراف الإمبراطورية إلى الأناضول، وخاصة إسطنبول. ومع تراجع تأثير أسلمة السياسات في السكان المسيحيين وزيادة عدد المسلمين، مهدت أيضا زيادة هجرة الأتراك إلى تراقيا والأناضول بعد فقد أقاليم الإمبراطورية العثمانية في البلقان السبيل لتطور حركة قومية تركية.
علاوة على ذلك، مع تكوين الإمبراطورية العثمانية تحالفا وثيقا مع ألمانيا، التي كانت تشهد تحولا قوميا هي الأخرى، أصبح المفكرون العثمانيون مثل السياسي التتاري العثماني يوسف أكجورا بشكل متزايد من أنصار نظرية القومية العرقية التركية الوليدة التي عرفت باسم التركية الشاملة.
ظهر التعبير عن القومية التركية في البداية في الأدب. كانت الإمبراطورية العثمانية دولة متنوعة عرقيا ودينيا ولغويا قسمت مواطنيها تاريخيا وفقا لانتمائهم الديني إلى ملل، أو دول، ذاتية الحكم في الإمبراطورية.
بعد ظهور القومية في أوروبا، والتي تركزت على العرقية أو اللغة كأساس للأمة، بدأ باحثون عثمانيون منهم أحمد وفيق باشا وسليمان باشا الكتابة عن عرق تركي ولغة تركية والتنظير بشأن الخصائص بمعزل عن هوية مسلمة أو عثمانية. كتبوا معاجم للغة التركية العثمانية وكتبوا تاريخ الشعب التركي. كتب جاسبرالي إسماعيل، وهو صحفي تتاري في القرم، عن “وحدة اللغة والفكر” كمبادئ مؤسسة للقومية التركية الشاملة. وسرعان ما ظهر المزيد والمزيد من الكتابات الأدبية القومية، فيما أرسى للقومية التركية أساساتها في منتصف القرن التاسع عشر. وساعدت “الرأسمالية المطبعية”، كما أطلق عليها أندرسون، في ولادة قومية جديدة وتسهيل تطور المفهوم الحديث للدولة القومية.
ودون أدنى شك، فإن القومية التركية الحالية تدين في شكلها الحالي إلى غوك ألب قبل كل شيء. ففي عصره جرت للمرة الأولى مناقشة الهوية العرقية والقومية التركية كشيء منفصل عن الهوية الإسلامية. كان غوك ألب أول من أشار إلى إمكانية إصلاح الإسلام وإضفاء طابع تركي عليه. كان يرى الدين مظهرا للدولة كجماعة وسعى لإعطاء الدين طابعا قوميا. الدين يمكن أن يساهم في تشكيل بوصلة أخلاقية جماعية صوب التحديث. لكن هذا ليس فقط كل ما يمكنه أن يفعله- فالدين قوة يمكن أن توحد المجتمع وهذه القوة ينبغي استغلالها في خدمة الأمة. غير أن هذه القوة العاتية ينبغي أن تبقى منفصلة عن المؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية والفنية واللغوية والعلمية. الخدمات الدينية ينبغي أن تكون مرتبطة فقط بالإيمان والعبادة.
كانت تلك الأفكار فعالة في تشكيل عملية تكوين مؤسسة حكومية نظمت الدين- وهي مؤسسة ديانت أو إدارة الشؤون الدينية- بعد تأسيس الجمهورية. ساهم ذلك أيضا في وضع الأساس لتفسير تركي فريد أقل تحررا من مفهوم العلمانية أو “فصل الكنيسة عن الدولة” بالإنكليزية.
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر إصلاحات أطلق عليها اسم “تنظيمات” حاولت من خلالها الدولة العثمانية البدء في إدارة رعاياها كمواطنين وإنشاء بعض المؤسسات الديمقراطية فضلا عن تطورات في التكنولوجيا والبنية الأساسية. غير أن الدولة لم تكن قادرة على تجاوز القوميات العرقية اللغوية المتنافسة التي كانت تنمو داخل حدودها. وقبيل حروب البلقان، ومن بعدها الحرب العالمية الأولى، تعرضت الحكومة العثمانية لسلسلة من الانقلابات والثورات والتغييرات في القيادة.
في عام 1913، بعد انقلاب الباب العالي، أتيحت الفرصة أمام الجناح القومي التركي في جمعية الاتحاد والترقي، الذي كان يتألف من مفكرين متأثرين بعبد الله جودت وضياء غوك ألب، لتشكيل السياسة. ومثلما سيكتب الجنرال أنور باشا، باتت كلمة “تركيا” أكثر شيوعا باعتبارها اسم الأمة. كان من المعتقد أنه ينبغي لتركيا قبول المزيد من اللاجئين “الأتراك” من الأقاليم العثمانية التي فُقدت في الوقت الذي يتم فيه طرد الأقليات العرقية واللغوية والدينية. كان مفهوم الدولة-الأمة التركية أحد أسباب مذابح وترحيل الأرمن.
يمكن قول إن التحول السياسي الثاني المهم حدث عندما تم تعيين مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية لاحقا، قائدا لقوات الصاعقة في الجيش العثماني وانسحب إلى شمال حلب. وبالتالي، فقدت الإمبراطورية فعليا أقاليمها العربية المأهولة واقتصرت على الأناصول. وكان التحول السياسي الثالث المهم هو الاجتماع السري الأخير لمجلس النواب العثماني الذي تم خلاله إعلان أن الأمة التركية والدولة التركية شيء واحد.
كان ترك هذا الإعلان مدنا ذات أغلبية كردية مثل الموصل وكركوك خارج تصوره للأراضي التركية خطوة مهمة بالنسبة للدولة الأمة. وبتركهم تلك المدن الكردية المهمة خارج حدود الدولة بعد التخلي أيضا عن الأراضي العربية، ضمنوا وجود أغلبية عرقية تركية داخل حدود الدولة. كانوا يعتقدون أنه سيكون من السهل استيعاب السكان الباقين وأغلبهم بدو ريفيون أكراد. ولو لم يرسم إعلان الدولة الأمة الحدود بهذا الشكل واحتفظ بالأراضي الكردية السورية والعراقية، لكان من الصعب على تركيا أن تؤسس دولة أمة وحدوية. كان أتاتورك قد أعد خطة بديلة لإقامة اتحاد تحسبا للظروف فقط.
ذكرنا بالفعل أن جانبا من المفهوم القومي هذا كان نسخة تركية حديثة من الإسلام. كانت عمليات “تبادل السكان” التي حدثت بين اليونان وتركيا، والتي جرى خلالها ترحيل المسيحيين من تركيا إلى اليونان وترحيل المسلمين من اليونان إلى تركيا، تهدف إلى خفض عدد السكان المسيحيين في تركيا. وشمل هذا المسيحيين الناطقين بالتركية في قهرمان مرعش بينما تم دمج مسلمي بونتيك الناطقين باليونانية في منطقة البحر الأسود.
خلال ربع القرن الأول من عمر الجمهورية، طبقت الحكومة سياسة الدمج القسري ضد العلويين الذين يعتنقون شكلا بدعيا من الإسلام، نظرا لأن ممارساتهم لا تتفق مع التفسير الرسمي للدولة للمذهب السني. ووفقا للمؤرخ ميت تونجاي، فقد فرضت الدولة أيضا سياسات دمج عنيفة ضد الأكراد خلال ذلك الوقت أو أجبرتهم على الفرار إلى العراق وسوريا والاتحاد السوفيتي بينما أعادت توطين البعض في الأقاليم الغربية من أجل جعلهم أتراكا. وتعود سياسة النفي أو إعادة التوطين القسري تلك إلى عصر الإمبراطورية العثمانية.
ومن أجل فهم التاريخ الطويل لبناء الأمة والدولة في تركيا، من المفيد أيضا النظر في التطورات الحديثة. في الفترة من 2013 حتى 2015، كانت هناك مفاوضات سلام بين الحكومة، بقيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم، وقيادة حزب العمال الكردستاني الذي يخوض تمردا في جنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية منذ عام 1984.
عندما انهارت تلك المحادثات، عادت الدولة إلى سياسة تشبه السياسات التي كانت متبعة في ربع القرن الأول من عمر الجمهورية. وفي حين أن حزب العدالة والتنمية مدفوع بالأساس بظروف سياسية مباشرة، إلا أن هذا كان سياسة متعمدة وذلك من منظور قومي. في عام 2017، أقر استفتاء نظام رئاسة تنفيذية جديدا. كان هذا أيضا جزءا من تلك الخطة، أساسه القومية التركية.
الانتقال الكامل إلى النظام الرئاسي هذا العام يشبه إلى حد بعيد تعليق السلطان عبد الحميد الثاني عمل البرلمان العثماني في عام 1878. فقد حيد النظام الجديد سلطة البرلمان تماما. الهدف هو الحد من وصول عناصر غير مرغوبة، مثل الأكراد، إلى السلطة. وبمقايضة حزب العدالة والتنمية الإسلامي جزءا من السيطرة مقابل الحصول على دعم القوميين، فقد منع الحزب أي حركة إسلامية مستقبلية خارج السيطرة من التأثير في الدولة.
ويرى الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر جورج فيلهلم فريدريش هيجل أن الدولة تعد “مظهرا ساميا من مظاهر نشاط الرب في العالم”. من منظور هيجل، فإن الأمة التركية تتطابق تماما مع الهيكل الجديد للدولة التركية.
هذه هي المرحلة الحالية من القومية التركية. بفضل الدولة التركية المقدسة، باتت عظمة الأمة التركية ظاهرة للصديق وللعدو على حد سواء.