تركيا وتاريخها هما عبارة عن مجموعة من المتناقضات. وتتركز واحدة من أكبر التناقضات على مفهوم فصل الدين عن الدولة، والذي يعرِّف العلاقة بين الدين والسياسة في تركيا.
وقد ظلت قضية العلمانية وفصل الدين عن الدولة موضوعاً للنقاش المتكرر منذ حقبة التنظيمات العثمانية، وهي فترة مركزية الإصلاح من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى امتدت من عام 1839 إلى عام 1876.
ومنذ ذلك الحين، يتركز النقاش على الدين والمؤسسات الدينية وأثرهما على المجتمع والدولة. وكان السؤال الذي يقول “ما هو النظام الحقيقي للدولة؟” شاغلاً للعقول في تركيا في الماضي، تماماً كما هو الحال الآن. هل هذا النظام إسلامي، أم إنه فاشي أو علماني؟ في رأيي، إنه نظام مبني على العلمانية القومية، وهي نتاج عمل استمر على مدى عقدين.
اكتسب إضفاء الطابع العلماني على تركيا، والذي بدأ بحقبة التنظيمات، قاعدة قانونية راسخة بالتخلص من المادة الدستورية التي كانت تنص على أن “الإسلام دين الدولة” في عام 1928. ومع تبني مادة فصل الدين عن شؤون الدولة في الدستور عام 1937، صار هذا المبدأ عقيدة أساسية للنظام. لكن ظلت هناك مشكلة، وهي وجود تناقض؛ فالدولة لم تكف أبداً عن التحكم في الدين، بل حتى كانت تغير شكل الدين بما يخدم أهدافها. في هذه المواقف، كانت الدولة تفضّل أن تتصرف كما لو أن فصل الدين عن الدولة موجود، وكانت تفرضه على الناس كأنه دين. لكن على أرض الواقع، كانت الدولة تتصرف على نحو أقرب إلى مدرستي روسو أو أوغست كونت الفكريتين.
وفصل الدين عن شؤون الدولة هو نتاج لعقود من النقاشات الدينية والفلسفية في أوروبا. وبينما فصل الدين عن الدولة في الغرب هو نتاج للحداثة، فقد صار في تركيا هو القوة المحركة للحداثة؛ وهذا تناقض آخر. ويقول عالم الاجتماع شريف ماردين إن الحداثة تمخضت عن “إضفاء الطابع العلماني على سياسات الحكومة”.
وبكل تأكيد فإن الدولة ليست وحيدة؛ ففيالق الدولة التي تبدو وكأنها عبارة عن مجموعة من مفكرين وأصحاب قلم كانوا يؤمنون بأن حل المشاكل القائمة يكون فقط من خلال التصرف كما لو أن فصل الدين عن الدولة موجود.
ومع اقتراب منتصف القرن الثامن عشر، ظهر نظام الديوانية الإداري، وتبعه ظهور حركة اليعاقبة في الثورة الفرنسية. والديوانية وحركة اليعاقبة ليستا من الأيديولوجيات، وإنما من المناهج أو الأساليب. وفي إطار الديوانية، والتي يشار إليها أيضاً على أنها الاستبداد المستنير، كان الملوك يستخدمون المؤسسات التعليمية كأداة لتشكيل الناس وتغييرهم، وبالتالي تحقيق تقدم نحو “تأسيس إدارة مركزية قوية”. بدأت الديوانية تسيطر على الدولة العثمانية خلال حقبة التنظيمات؛ لكن الاستبداد المستنير في تركيا صار الأكثر نفوذاً في وجود الأتراك الشباب (الذين وصلوا إلى السلطة في عام 1908) والسنوات الأولى من عمر الجمهورية التركية (التي تأسست عام 1923). وعبارة “الاستبداد المستنير” هي في حد ذاتها تناقض.
يقول الفيلسوف دورموش هوج أوغلو إن “حركة اليعاقبة ظلت واحدة من الخصائص التي تعرّف التغريب التركي منذ بدايته، ووصل هذا إلى مستوى ذروة بشكل خاص خلال الإصلاحات الأتاتوركية” التي نفّذَها مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك. ويقول هوج أوغلو إن السبب في هذا هو أن المفكرين لاحظوا مساراً سلبياً، لكنهم لم يكونوا يعرفون كيف يمكنهم تغيير المسارات. وقال أيضاً إن هذا الشعور باليأس دفع المفكرين إلى التماس الملاذ في معسكرات أيديولوجية، ونتيجة لذلك تحولت معتقداتهم الفلسفية إلى أيديولوجيات، بل وحتى أديان، فُرضت بعد ذلك على الناس بصيغة حركة اليعاقبة. تأثرت الحداثة بعد ذلك بسياسات حركة اليعاقبة هذه، أو بمعنى آخر بفصل الدين عن الدولة الذي فُرض عليهم من أعلى.
وأفضل مثال على الديوانية أو حركة اليعاقبة في تركيا الحديثة هو مجلة (كادرو). بدأت المجلة النشر في أنقرة عام 1932، وكانت تستهدف تطوير أيديولوجية للنظام. ومن خلال إضفاء الطابع المؤسسي على الفكر الأتاتوركي، لجأ مفكرون من أمثال يعقوب قدري كارا عثمان أوغلو، وشوكت ثريا أيدمير، وفيدات نديم تور، وبرهان آصف بلجي إلى مجلتهم لتطوير المادة الفكرية للثورة.
ويمكن اختبار مغامرات ما يوصف بأنه فصل للدين عن الدولة في تركيا في خمس فترات.
بين عام 1908 و1950، طبقت الحكومة علمانية على النمط الفرنسي. وأشير بالعلمانية على النمط الفرنسي هنا إلى ظهور العلمانية. في إطار هذا النهج، حاولت الدولة إعادة تشكيل معالم الدين بما يتناسب مع حاجات الحكومة. وفرضت الدولة مفهوماً جديداً للإسلام سيفضي فيما بعد إلى هدف الدولة المتمثل في الوصول إلى المستوى ذاته من الحضارة الذي وصلت إليه الدول الأوروبية المعاصرة. وتغيير لغة الأذان إلى التركية بدلاً من العربية مثال على هذا. وكانت هذه السياسة متماشية مع الخاصيتين الأساسيتين للدولة، وهما فصل الدين عن الدولة والقومية.
وعلى الرغم من استمرار ظهور العلمانية على النمط الفرنسي في الفترة من عام 1950 إلى عام 1980، فإن الدولة تخلت في الحقيقة عن إعادة تشكيل الدين وقررت بدلا من ذلك أن التذرع بالإسلام لتحقيق مآربها سيكون أسهل. فاستغلال الإسلام كوسيلة دفاع في مواجهة الشيوعية القادمة من السوفييت كان متماشياً أيضاً مع سياسة حلف شمال الأطلسي.
وكانت الفترة من عام 1980 إلى عام 2002 فترة “القومية وفصل الدين عن الدولة”. وفي وجود فصل للدين عن الدولة مصبوغ بطابع تركي يجمع بين نقيضتين هما الإسلام والعلمانية، صار مبدأ الفصل هذا هو الأيديولوجية الرسمية للدولة، وصارت الدروس الدينية إلزامية في المدارس. يجب أن نضع في الحسبان أنه وفقاً لأيديولوجية ضياء كوك ألب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فإن الإسلام أحد العناصر المركزية للأمة التركية.
ومن عام 2002 إلى عام 2016، بدا النظام أقرب إلى “العلمانية ذات الطابع الأنكلوساكسوني” أو الليبرالية. ومثلت الحريات الدينية المصونة في الفضاء العام نوعاً من السياسات الليبرالية في دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة. لكن تحت غطاء الليبرالية هذا، تحول الإسلام إلى أداة لمشروعات أكبر. في هذا الإطار كانت هذه فترة حضانة لما سيأتي في السنوات التالية.
ومع محاولة الانقلاب التي وقعت في الخامس عشر من يوليو 2016، تأسست “العلمانية القومية” في تركيا. وبعد أزمة النظام التي استمرت على مدى مئتي عام، اتُخذت الخطوة الأخيرة في بناء دولة تركية، وهذه الخطوة الأخيرة ما زالت جارية. والخلط بين السياسات الإسلامية والقومية هو نوع من أنواع التناقض؛ فبينما يحتضن الإسلام مجتمعاً عالمياً مسلماً، تفضل القومية الحدود والانتماء للعِرق التركي. وتبَنّي أيديولوجية ما لمكونات محددة من الإسلام لا يجعل هذه الأيديولوجية إسلاماً، فالإسلام كل لا يتجزأ.
ويقودنا منطق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الاعتقاد بأنه سياسي إسلامي. والدعم الذي يتلقاه من إسلاميين في تركيا يعزز هذه الفكرة. لكن في غياب المبادئ الأربعة للفكر الإسلامي – وهي العدالة والشورى والمساواة والحرية – من المستحيل الحديث عن إدارة إسلامية؛ ففي الإسلام، العدالة هي دين الدولة.
وفي ظل نظام الخامس عشر من يوليو، جرى التخلص من هذه المبادئ الإسلامية بالكامل وحلت محلها سياسات ميكافيلية أسست لاتجاه قومي تركي يتخفى تحت ستار الإسلام. ووجود بعض القيم الإسلامية في الإدارة لا يشكل وظيفة من وظائف الإسلام في هذه الإدارة، بل إنه من وظائف القومية التركية. ومن دون شك فإن أفكار ضياء كوك ألب يجري تطبيقها.
لهذا السبب فإن الإدارة الحالية ليست وباء العلمانية الذي يكتب بعض الإسلاميين عنه ويشتكون منه نتيجة لفهم خطأ؛ فالإدارة الحالية هي إدارة علمانية على النمط التركي، وهي نسخة معاصرة من الفاشية، أو بمعنى آخر العلمانية القومية.