هل رأيتم يدي أردوغان المرتعشتين؟

يتكرر التاريخ بقسوته التي تتزايد أكثر وأكثر يوميًا؛ فيهدم كيانات من جديد، ويمزق ثانية. تركيا تمر بفترة زمنية مماثلة لتلك التي عاشتها عند اقتحام الباب العالي (23 يناير 1913). حيث بيروقراطية العدالة تقف في صف ذوي السطوة والغلبة. وحين يتعلق الأمر برأس الدولة فإنه لا يتورع شخصيًا عن التسلط والاستبداد.
دمر عبد الحميد الثاني آلية الدولة التي كانت عبارة عن بيروقراطية أسستها القوانين، وأنشأ بدلًا منها إدارة مستبدة مرتبطة به شخصيًا. وقد أثار هذا الوضع ردود الأفعال، وأفرز جمعية الاتحاد والترقي. وتنظّم الاتحاديون في الأرياف أولًا، ثم في البيروقراطية العسكرية والمدنية حتى عام 1913 حيث تحولوا إلى حزب، وكان هدفهم الأساسي هو إقامة النظام الدستوري بدلًا من السلطنة، لأن النظام الدستوري كان الأرضية الأنسب التي يمكنهم عبرها فرض أيديولوجياتهم.
نجح الاتحاديون في جعل السلطان يعلن المشروطية الثانية (الحقبة الدستورية الثانية) عام 1908، وذلك من خلال التمرد الذي أحدثوه في البلقان، ونجحوا في تحويل حادثة الـ 31 مارس التي وقعت في إسطنبول إلى فرصة للاستيلاء على السلطة. فحادثة 31 مارس التي وقعت عام 1909 تشبه حادثة 15 يوليو (2016) في كثير من النواحي، وقد تم قمعها من قبل جيش الحركة، أي الاتحاديين، القادم من البلقان. وكان محمود شوكت باشا قائد ذلك الجيش. وحادثة 31 مارس محل نقاش مستمر بين المؤرخين. إنها تمرد مجموعة صغيرة ومتفرقة داخل الجيش، من غير الواضح ما هي خطة تحركاتها ومن واضعوها، وضدّ من كانت. هدفها غامض. من خرجوا إلى الشارع لا يعرفون لماذا خرجوا؟ ولكن جيش الحركة الذي قمع محاولة الانقلاب هذه التي وقعت في إسطنبول، والاتحاديون يعلمون مسار الأحداث ونتائجها: سيُعتبر عبد الحميد المسؤول عن محاولة الانقلاب، ويتم خلعه من العرش. ويُؤتى بالسلطان رشاد بدلًا منه.
وهنا يوجد موقفان للاتحاديين؛ أولهما: فضلوا استغلال السلطنة بدلًا من إلغائها بالرغم من قدرتهم على ذلك. ثانيهما: فضلوا خلع عبد الحميد عن العرش بدلًا من الاتفاق معه. وحقق الاتحاديون نجاحات في 1908 و1911 و1912 وما تلاها من انتخابات تمت بعد إعلان المشروطية التي يعرفونها بالحرية فكانوا مؤثرين وفاعلين في المجلس، لكنهم لم يستطيعوا امتلاك السلطة المطلقة التي رغبوا فيها. ونظرًا لأنهم كانوا مسؤولين شبابًا صغارًا فلم يكن لديهم عضو يستطيعون وضعه مباشرة في منصب رئيس الوزراء. فلم يتمكن الاتحاديون الذي أعلنوا الحرية ثانية وقمعوا حركة 31 مارس من السيطرة على الدولة تمامًا بأية حال، وما كانوا يستطيعون تنفيذ السياسات التي يريدونها تمامًا.
وكان أحمد مختار باشا وكامل باشا منزعجين من الاتحاديين، فكانت حكومتهما تضغط على الاتحاديين، فقرر الاتحاد المركزي العام للاتحاد والترقي والضباط الاتحاديون القيام بانقلاب والإطاحة بالحكومة؛ لأن الاتحاديين كانوا يرون أن الوقت لن يعمل لصالحهم إذا عجزوا عن السيطرة تمامًا على الحكومة. وكانت احتمالية توليهم السلطة تتضاءل يومًا بعد يوم.
في 23 يناير 1913 اقتحم أنور باشا ومعه مجموعة من الجنود والأشخاص الباب العالي أي الحكومة، واضطر كامل باشا إلى الاستقالة. وبدلًا من حكومة كامل باشا تشكلت حكومة محمود شوكت باشا. وهكذا أصبح الاتحاديون في موقع يمكنهم منه إدارة البلاد كما يحلو لهم. وأخيرًا أقامت جمعية الاتحاد والترقي نظامها الديكتاتوري الخاص بها. ولكنه نظام ديكتاتوري سيقوض خلال ثلاث-خمس سنوات إمبراطورية عمرها 600 سنة.
كم أنَّ هذه التطورات التي أوجزتها تشبه الأحداث الجارية في عصرنا!
إن أردوغان وأعوانه الذين قُبض عليهم متلبسين بعمليات الفساد 17/25 (ديسمبر 2013) فضل الاتفاق مع الاتحاديين الجدد الذين كدسهم في السجون سابقًا، والمقابل أن ينقذوه من الموقف الصعب الذي سقط فيه. كان الفريقان سيبرّآن ساحة بعضهم البعض، ويحاربان سويًا كوادر الدولة التي كشفت تلك العمليات. ولم يكن من الصعب بالنسبة لأردوغان -القادر على المناورة-أن يتطور من فكر العثمانيين الجدد إلى فكر الاتحاديين الجدد. وكان تحالف العثمانيين الجدد والاتحاديين الجدد “تحالف مجرمين” تمامًا. كان تحالفًا يحرق كل شيء أمامه، ولكن كانت هناك مشكلات كبيرة على الساحة؛ كانا لا يزالان عدوين ولا يثق بعضهم في بعض.
بعد قيام تحالف المجرمين هذا شهدت تركيا حوادث عديدة: في الفترة 7 يونيو-1 نوفمبر 2015 صارت تركيا مسرحًا لأحداث دامية من جديد. فهذا التحالف الذي يعتقد أنه يستطيع الحصول على نتائج بالدم والخوف نجح بعد عام في إزالة آخر العقبات التي تعترض أهدافه عبر سيناريو دموي جديد في 15 يوليو (2016).
تمامًا مثل جيش الحركة الذي قمع حادثة 31 مارس، فقد أرسل الاتحاديون الجدد الجنود العُزّل وطلاب المدارس العسكرية إلى الشوارع أولًا، ونجحوا في تنفيذ انقلاب عبر سحقهم من الخلف. وهكذا أصبحوا شركاء لنظام أردوغان. خلع الاتحاديون السلطان عبد الحميد وأنهوا حكمه. وترك استبداد عبد الحميد مكانه لاستبداد الاتحاديين. ولكن تركيا بعد 15 يوليو تعرضت لاستبداد وطغيان مشترك ومتعدد الأوجه لكل من أردوغان والاتحاديين الجدد.
وهناك حدث آخر مهم وقع مع تغيير النظام الذي تمّ باستفتاء 16 أبريل (2017). حيث ظهرت نتائج الانتخابات لصالح هذا التحالف بتدخل مباشر من اللجنة العليا للانتخابات. لأن تحالف المجرمين ما كان يستطيع مواصلة البقاء في نظام ديمقراطي طبيعي؛ فعند تأسيس التحالف كان يجب أن يتغير النظام أيضًا وفقًا لروح هذا التحالف.
وهكذا أعلنت اللجنة العليا للانتخابات أنه سيتم قبول مظاريف وبطاقات الاقتراع غير المختومة في انتهاك واضح لقانون الانتخابات لتتدخل بذلك في نتائجها. وربما أنها أعلنت النتيجة. وهذا التدخل يحمل آثار الفقهية التي تعني ديكتاتورية القضاة. وهذه الديكتاتورية تعني أن يبدأ السيطرة على الأمور من يجب أن يكون حكمًا وفيصلًا في الأساس. ولقد رأينا هذا النوع من الديكتاتورية في الانتخابات المحلية في 31 مارس 2019، في حادثة “تسليم الوثائق للمرشحين الخاسرين في الانتخابات”.
أما في الانتخابات الرئاسية في 24 يونيو 2018 فقد حدث تدخل عسكري في مرحلة الترشيح؛ إذ قام رئيس هيئة الأركان العامة بمنع انضمام عبد الله غول -المطروح اسمه بالنسبة لرئاسة الجمهورية-إلى الانتخابات، حيث زاره في منتصف الليل. وكان الاتحاديون الجدد لا زالوا عاكفين على الأمر. لم يكونوا يرضون باختيار أحد غير شريكهم؛ حيث يستحيل عليهم العثور على زعيم آخر يمكنهم استخدامه بكفاءة أكبر ويقبل الناس كل كلامه دون شرط ولا قيد.
المنعطف الأخير في صراع هذا التحالف مع الأمة كان في الانتخابات المحلية في 31 مارس 2019. كانت ملفات جرائم التحالف مثل جبل “أرارات”، والتي حين تنفجر سوف تتناثر أشياء كثيرة في كل مكان. لأجل ذلك غيّر التحالف اسمه ليصبح “البقاء”. حتى إن عبء البقاء بدأ يحني ظهر أردوغان. فأردوغان الذي يحاول تكوين اتحاد عبر توزيع الشاي في الميادين يسعى إلى التدخل في المشهد اليائس الذي أمامه ويداه ترتعشان، ولكن دون جدوى.
ومع أن الاتحاديين الجدد تحالفوا مع أردوغان لكن الأمر لم يخلو أبدًا من أن يدور بينهما صراع خفي وشجار سري. فحين ظهرت نتائج الانتخابات لغير صالح أردوغان بدأ يبحث عن حلول جديدة، وشرع يُحضّر لـِ تحالف تركيا. ولكن حلفاء أردوغان الذي فقد قوته يطلبون منه الشراكة المطلقة في السلطة في مقابل حمايته. ويقاوم أردوغان هذا. الخلفية السياسية تشبه أيام حدوث اقتحام الباب العالي. ومهمة الاقتحام هذه المرة في يد البيروقراطية القضائية.
يمكنكم إشعال النار في غابة متى شئتم، ولكنه يستحيل أن تطفئوها متى أردتم. أو أنه يمكنكم الدخول في منظمة إجرامية، ولكن يستحيل أن تخرجوا منها متى رغبتم. فحين رأى أردوغان أن الحريق الذي أشعله قد تطاير على ثيابه ظن أنه يستطيع القفز والنجاة من خلال المناورة؛ فقد قام بمناورات كثيرة مثل هذا من قبل. أما الآن فإن اللهب يقفز إلى مكان آخر من جسده كلما قفز ووثب، إن أردوغان يحترق.
بات من الأفضل تركُ أردوغان بمفرده مع شركائه في الجريمة، والعملُ من أجل مستقبل بدون أردوغان.
إن أردوغان يدرك أن النار قد طوقته.
أردوغان يحترق.
لأجل هذا يرتعد.
أرى أنّ يدي أردوغان ترتعشان.