أردوغان عاد بتركيا قرنين إلى الوراء! هل يُصدر باباجان فرمانه؟

لم يكن الفهم، الذي مفاده أن النظام السلطاني بدأ يشكل تهديدًا لبقاء الإمبراطورية العثمانية، في فترة عمرها الأخيرة فقط، موافقاً لظن الكثيرين؛ فقد كان محمد كوبرولي باشا أول من أثبت أنه على علم كامل بهذه الحقيقة، لا سيما عندما اقترح محمد الرابع تعيينه في منصب الصدر الأعظم، وهو منصب رفيع يعادل منصب رئيس الوزراء في الوقت الحالي، فجاء رد محمد كوبرولي باشا على السلطان بأنه لن يقبل بتولي هذا المنصب إلا بموجب شروط معينة.
وعلى الرغم من أن الشروط التي طرحها كوبرولي كانت، في مجملها، تلقي الضوء على المشكلات، التي كانت سائدة في ذلك الوقت، إلا أنها كانت، من دون شك، انعكاساً لمدى الخراب، الذي أحدثه نظام السلطنة في الدولة. لقد طالب كوبرولي بتطبيق الاقتراحات أو التوصيات، التي قدمها إلى القصر، دون الإخلال بأي منها، وأن يتولى هو مهمة تعيين جميع رجال الدولة، دون تدخل من القصر، ولم يوافق على تولي منصب الصدر الأعظم حتى تمت الاستجابة لجميع هذه الشروط.
وبالموافقة على الشروط التي طرحها، يصبح كوبرولي أول رجل دولة ينجح في تقييد سلطة السلطان وإدارته في حكم الدولة العثمانية. وكانت النتيجة، أن الدولة، التي كانت قد دخلت بالفعل على طريق الهبوط، استطاعت، ولو لفترة قصيرة، أن تتماسك وتتعافى من جديد. ومع هذا، ربما  لسوء حظ كوبرولي، لم يكن أسلوب الإدارة الذي اتبعه متعارفاً عليه في الإمبراطورية العثمانية في تلك الفترة.
لقد شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر، بعد ذلك، إصلاحات وتعديلات كثيرة، كان الهدف منها إعادة تمكين سلطة القصر من جديد، التي تعرضت للتآكل طوال الفترة السابقة، ولكن عندما لم يحصل القصر على النتيجة، التي كان يروجها من وراء تلك الإصلاحات المزعومة، اتجه، هذه المرة، إلى اتباع نظام حكم أكثر استبدادية. وهذا ما رأيناه خلال فترة حكم السلطان محمود الثاني، الذي عُرِف بديكتاتوريته. بل ويمكن القول إن هذه الفترة كانت أسوأ فترة للإمبراطورية العثمانية كلها وأحلكها.
أصبح القصر، خلال فترة محمود الثاني، أكثر صفاقة، وابتعد كثيراً عن مبادئ تطبيق القانون ومنح الحقوق؛ فكان السلطان يقابل أي شيء، يرى فيه تهديداً لسلطته، بعنف شديد للغاية، لا يتناسب مع حجم الحدث. وبالتالي كان من الطبيعي أن تتحول الدولة إلى مكان لا يأمن فيه الناس على أرواحهم وأموالهم. كان للسلطان مطلق الحرية في تنفيذ حكم الإعدام في هذا، أو نفي ذاك؛ فاستولى بتهور على ممتلكات الأمة ومقدراتها، ولم تأخذه رأفة بالانكشارية والبكتاشيين؛ فراح يقتل الفريق الأول، وينزل أشد العقاب بالثاني. ولم يكن الأكراد والألبان أسعد حظاً من الآخرين، بل باتوا في عصره أكثر الطوائف التي تعرضت لبطش القصر وإرهابه.
كان مصطفى رشيد باشا أحد رجال الدولة، الذين لم تحظَ أفكارهم وأعمالهم بالتقدير الكافي من قبل القصر. لقد استطاع رشيد باشا أن يضع يده على المشكلة الحقيقية، التي تعاني منها الإمبراطورية العثمانية، واقترح لها الحلول؛ لتخرج من هذا المنعطف السيء. لم يكتف رشيد باشا بتقديم طرق الحل فحسب، بل بذل أيضاً جهوداً مضنية؛ لتحويلها إلى واقع حقيقي ملموس؛ لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون هو نفسه المهندس، الذي وقف وراء صدور فرمان التنظيمات.
كان رشيد باشا يوجه نقده للسلطان محمود بقوله إن السلطنة أصبحت، في عهده، عبئاً ثقيلاً، ناء به كاهل الشعب، ولم يعد قادراً على حمله؛ فنراه يقول مثلاً:
“إذا لم تستطع المؤسسات الجديدة، التي يبدو أن السلطان محمود مؤيد لها، التغلب، في بعض الأحيان، على الصعوبات، وإذا عجزت تلك المؤسسات عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام منذ تأسيسها، فحينها يصبح من الضروري البحث عن السبب وراء هذا في غطرسة الحاكم، التي جعلت هذه المؤسسات مجرد واجهات شكلية غير قادرة على خدمة الشعب”.
وفي الواقع، إن هذا السلوك معتاد لدينا، ولا يختلف كثيراً عما نألفه اليوم، تحت حكم أردوغان، الذي حوَّل بدوره كل شيء، وكل مؤسسة في الدولة إلى مجرد واجهات شكلية لا تأثير لها.
ذكر رشيد باشا كيف وقف الحُكام عائقاً أمام تعديل نظام الحكم في الإمبراطورية العثمانية، وقال إنه لا سبيل لتغيير هذا النهج إلا من خلال “تطبيق الأسس التي ستمكّن الدولة من التحرر من نفوذ الأفراد”. وفي إشارة ضمنية منه إلى ضيق أفق السلطان محمود ونزواته، أعرب رشيد باشا عن احتكاره لأي حاكم أو إدارة ملكية لا تخضع، في حكمها، للقانون.
كان رشيد باشا يعتقد أن الطريقة الوحيدة لمنع انهيار الدولة هي “تأسيس إدارة داخلية تستند إلى مبادئ ثابتة”، أي الإدارة القائمة على مبادئ معينة وواضحة، لا يستطيع الحكام تغييرها وفق أهوائهم.
“إذا كانت المؤسسات السياسية الجديدة، التي يَلزم تأمين عملها، تُدار وفق ما يقتضيه العقل والإدراك السليم، فحينها يصبح الجميع فدائيين حقيقيين في نظام ثابت لا يتغير؛ فكلما قل الاستبداد، زاد حب الشعب للحكومة، وتعلقت الناس، بكل إخلاص، بأي إجراءات أو تعديلات من شأنها تحقيق المنفعة العامة”.
هنا يكمن الفارق بين رشيد باشا والإصلاحيين السابقين؛ فهو هنا يريد بناء الدولة، استناداً إلى “مؤسسات دائمة لا يمكن تغييرها”. وحتى إن كان تفسيرنا لرؤية رشيد باشا تلك بأنه يريد دولة القانون وحكماً دستورياً صحيحاً، إلا أنه يظل تأويلاً منقوصاً بالنسبة لقصده الحقيقي؛ لأن أفكاره وتصوراته حول مفهوم دولة القانون والنظام الدستوري لا تتوافق بشكل كامل حول تصورنا لهما.
وفي واقع الأمر، إن رشيد باشا كان يقصد من قوله “المؤسسات الثابتة” فلسفة “القانون الطبيعي”، التي انتشرت في جميع أنحاء أوروبا في ذلك الوقت. ووفقاً لتلك الفلسفة، فإن مصدر القانون الطبيعي هو الفطرة الطبيعية لدى الإنسان؛ فالإنسان، وفق هذه الفلسفة أيضاً، يتمتع بحقوق متأصلة منذ مولده، وقبل أن يصبح كائنًا اجتماعيًا. وهذه الحقوق عامة بين البشر، لا تقتصر على زمان أو مكان، ولا يمكن لإنسان التنازل عنها.
تُرجِع هذه الفكرة القانونية، التي انتشرت خلال فترة التنوير، تنظيم الدولة إلى القوانين الطبيعية لخلق الإنسان؛ حيث تستند قدسية الحق في الحياة، وحقوق الأفراد وممتلكاتهم، وكافة الحقوق الأساسية، التي نادت بها الثورة الأميركية عام 1776، والثورة الفرنسية عام 1789، كما ترجع مسؤولية الدولة تجاه تحقيق هذه الأمور للمواطن، إلى مبادئ القانون الطبيعي.
من الواضح أن رشيد باشا كان يسعى، من خلال فرمان 1839 ، إلى تحقيق ثورة مماثلة لتلك التي شهدتها أميركا وفرنسا، تضع حقوق الإنسان على رأس أولوياتها. وفي الواقع، إننا نستطيع بسهولة تلمُّس التلميحات، التي ذُكرِت في ثنايا الفرمان، حول الطبيعة والفطرة الإنسانية. دعونا نلقي نظرة على بعض ما جاء في فرمان 1839:
– الحفاظ على حياة جميع المواطنين، وصون كرامتهم وشرفهم وممتلكاتهم.
– تحري العدالة في القضاء.
– إلغاء نظام المصادرة، الذي يعني الاستيلاء على الممتلكات.
– المواطنون على قدم المساواة في حق المواطنة.
– حظر الرشوة.
– التعهد بوضع نظام عادل للضرائب والخدمة العسكرية.

ولكن ما حدث هو أن الإمبراطورية العثمانية قد انهارت قبل إتمام هذه العملية، التي بدأت بفرمان التنظيمات، الذي كان مرسومًا ليبراليًا في جوهره؛ حيث قام مصطفى كمال أتاتورك عام 1922 بإلغاء نظام السلطنة بالكامل من أجل وضع حدّ للأضرار، التي تسبب فيها النهج الذي اتبعه هذا النظام في الحكم، والتي تحدث عنها رشيد باشا قبل ذلك. وفي الواقع، إن أمراً كهذا كان نتيجة طبيعية للمغالاة في فرض القيود على الحريات؛ فكل مغالاة لا بد أن تنقلب إلى النقيض تماماً. هذه قاعدة ثابتة.
والواضح أن تركيا، تحت حكم أردوغان، لم تتخلص، إلى اليوم، من شرور العهد الماضي، خاصة بعد أن استسلمت للشر التقليدي القديم، وتنازلت عن المكتسبات، التي حصل عليها المواطن في استفتاء عام 2010 ، في نهاية قرنين من النضال. يبدو أن تركيا تعيش اليوم فترة تشبه، إلى حد كبير، فترة الحكم الديكتاتوري للسلطان محمود، بل لا أكون مخطئاً إذا قلتُ إن أدوات الشر الموجودة في يد السلطة الآن أصبحت أكثر سوءاً، مقارنة بما كان موجوداً في الماضي.
لقد عاد أردوغان بتركيا إلى الوراء فترة لا تقل عن قرنين؛ فلم نعد نرى وجوداً لقضاء عادل، وأصبحنا نعيش، من جديد، في بلد لا يأمن الناس فيه على أرواحهم وممتلكاتهم. وبالإضافة إلى ذلك، انتشرت الرشوة، ولم يعد هناك مجال للحديث عن المساواة القانونية والاجتماعية بين المواطنين. وأصبح الجميع، اللهم إلا شريحة صغيرة من المجتمع، في مرمى هذا الشر، الذي ورثه نظام أردوغان عن أنظمة سابقة.
وفي حقيقة الأمر، إن طبيعة السياسة تقتضي أن نتوقع أن يؤدي هذا المناخ السياسي والاجتماعي الفاسد، الذي نعيشه الآن، إلى بدء فترة تنظيمات جديدة؛ لأن التاريخ دائماً ما يكرر نفسه في مثل هذه الظروف؛ لذلك ربما كان من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهني اسم رشيد باشا، وأنا أستمع إلى حديث علي باباجان، الذي بدأ مؤخراً يفصح عن أفكاره بشأن المرحلة القادمة؛ فمن السهل العثور في أفكار كل منهما على العديد من أوجه التشابه والقواسم المشتركة؛ حيث إن تصور باباجان حول الكرامة الإنسانية ومفهوم القانون العالمي تتوافق، بشكل كامل، مع أفكار رشيد باشا، ومفهوم الطبيعة الإنسانية، الذي أكد عليه “فرمان التنظيمات”.
جاءت كلمات باباجان “إن حقوق الإنسان لا يمكن التصويت عليها، وإنما لا بد أن نقبل بها كما هي، ووظيفة الدولة هي حماية المواطنين، والدفاع عن حقوقهم”، متماثلة تماماً مع الأسس التي وضعها رشيد باشا في فرمان التنظيمات. ولا غرابة في هذا؛ فمن الطبيعي أن تأتي الحلول متشابهة، عندما تكون المشكلات متشابهة أيضاً؛ حيث إن الإتيان بتصور لنظام جديد في مواجهة ديكتاتورية أردوغان، التي تشبه ديكتاتورية السلطان محمود، هي الطريقة الأكثر منطقية للتصدي لهذا النظام الفاشي.
دعونا نرى، هل سينجح باباجان في تحقيق ذلك أم لا؟
هل سنكون قادرين على الدخول في فترة تنظيمات جديدة أم لا ؟