يتحدث العالم اليوم عن ثروة أردوغان الطائلة، ويطلقون عليها اسم “كنز قارون”. وقد نقل الصحفي أحمد دونماز عن سفير أميركا السابق ريتشاردوني في تركيا قوله عام 2014 “لقد حددنا الأصول غير الرسمية لأردوغان، ووجدنا، وفقاً للنتائج، التي توصلنا إليها في هذا الشأن، أن ثروة أردوغان تقدر ﺒ 200 مليار دولار”. وبالطبع لا أحد يعلم كم مئة مليار دولار بلغت ثروته في الوقت الحالي. وفي تصريح له أيضاً، قال عبد اللطيف شَنَر، رفيق أردوغان السابق، إن ثروة أردوغان تبلغ حوالي 300 مليار دولار.
لا شك أن أردوغان قد تحصَّل على الجزء الأكبر من هذه الثروة من طرق غير مشروعة؛ لأننا ببساطة لم نعرف إن كان لأردوغان أو لأي من عائلته أعمال تجارية؛ يمكنها أن تدرّ عليه هذه الثروة الطائلة. أما الذين يعرفون معلومات عن مصادر هذه الثروة غير المشروعة، فلا يترددون في استخدام هذا الأمر لمساومة أردوغان نفسه. وقد رأينا هذا الأمر مؤخراً في اجتماع الناتو، الذي عقد في لندن يومي 3 و 4 ديسمبر 2019؛ حيث كان هذا الأمر أيضاً السبب الرئيس وراء عدم تمكن أردوغان من طرح أي من الأمور، التي تحدث فيها سابقاً، على طاولة الاجتماعات في لندن. وفي رأيي، إن تصريح السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي صدر في نفس اليوم، وقوله “لقد منحتُ أردوغان وقتًا، ولكن الوقت قد حان الآن لفعل شيء ما”، كان بمثابة تهديد صريح لأردوغان بإمكانية استصدار قرار ضده من مجلس النواب الأميركي؛ يشتمل على بند يتيح البحث والتحقيق في مصادر ثروته.
وفي واقع الأمر، فمن الطبيعي بالنسبة لإدارة ترامب، التي نجحت في استخدام هذه الوسيلة مع أردوغان قبل بضعة أشهر، ألا تتردد في انتهاج نفس الأسلوب مرة أخرى في قمة الناتو كذلك. لعلكم تذكرون كذلك أن مشروع القانون، الذي اعتمده مجلس النواب الأمريكي في 30 أكتوبر 2019، قد دعا صراحة إلى إعداد تقرير مشترك لوزير الخارجية الأميركي ووزير المالية ومدير الاستخبارات للتحقيق في أصول أردوغان وعائلته.
من هنا يمكن القول، إن خوف أردوغان على أمواله وأموال أسرته كان السبب الرئيس، الذي جعله يهرول إلى البيت الأبيض قبل مناقشة هذا القانون بفترة قصيرة، وبعد الخطاب المُهين الذي تلقاه من ترامب. ومن يدري حجم التنازلات، التي قدمها لترامب باسم الدولة؛ من أجل الحفاظ على أمواله تلك، سوف تُظهر الأيام هذا الأمر بعد ذلك.
وقد ظهر تأثير هذه الوسيلة، بشكل واضح، عندما تَحوَّل موقف أردوغان بعد انتهاء اجتماعه في البيت الأبيض بالرئيس الأميركي؛ فهدأت حدته المعهودة تجاه القضية السورية، وفي المقابل راح يتحدث عن وجود مؤامرات سياسية تُحاك ضده على مستوى السياسة الداخلية. بعد ذلك، سوف نشاهد أردوغان، وهو يتأرجح مثل بندول الساعة بين ترامب تارة وبوتين تارة أخرى. أو بمعنى آخر، من ينجح منهما في ابتزازه بشكل أكبر من الآخر سوف يحصل على ما يريد. لعلكم تذكرون أيضاً أن بوتين بدوره قد ابتز أردوغان، قبل الولايات المتحدة، عندما ألمح إلى علاقة أردوغان وعائلته بالجماعات الإرهابية. وبالتالي حصل أيضاً على ما أراد من تركيا في ذلك الوقت.
أما إذا سألتموني عن وضع أردوغان على الساحة السياسية في الداخل، فيمكنني القول إن وضعه بات أكثر خطورة مما هو عليه في الخارج؛ فقد تحول الاقتصاد والأخلاق والسياسة، بل وتحول المجتمع والدولة بجميع مؤسساتها، تحت قيادته، إلى مجرد حطام. ولعل التحقيقات التي جرت بتاريخ 17/25 ديسمبر تعد واحدة من أهم الدلائل على أن تركيا تسير في طريق وعر، على الرغم من أنها لم تكن أول تحقيقات فساد تواجه أردوغان شخصياً.
في الواقع، يمكننا تقسيم الحياة السياسية لأردوغان إلى ثلاث فترات رئيسة، وفقاً لوقائع الفساد التي تورط فيها؛ تشمل أولى مراحل الفساد تلك، والتي يمكن حصرها في عشر سنوات، الفترة التي تولى خلالها أردوغان منصب رئيس بلدية إسطنبول. دعوني أُطلق على هذه المرحلة اسم “فترة التَلمذة”، وهو تعبير يحبه أردوغان كثيراً. وتعتبر واقعة الفساد المتعلقة بتطبيق “التذكرة الذكية” واحدة من أهم قضايا الفساد، التي ظهرت خلال مرحلة التلمذة تلك. وقد برَّأت المحكمة، التي كان يرأسها إسماعيل رشدي جيريت، الذي يتولى في الوقت الحاضر منصب رئيس محكمة الاستئناف العليا، أردوغان من تهمة اختلاس 2.5 تريليون ليرة تركية، التي وجهها إليه آنذاك مكتب المدعي العام، وطالب بسجنه مدة لا تقل عن 14 عامًا.
لم يكن أردوغان رئيساً للبلدية أثناء مرحلة “التلمذة”، عندما استطاع أن يفلت من العقاب، كما تخرج الشعرة من العجين. ومع هذا، فقد اختلف الوضع تماماً مع توليه رئاسة الوزراء، ورئاسة حزب سياسي يحظى بأغلبية ساحقة داخل البرلمان؛ فحصل على المزيد من القوة والدعم اللذان ساعداه، بلا شك، ليمضي في طريقه هذا. وبالتالي لم يدخر أردوغان وسعاً للاستفادة من تلك القوة؛ لينتقل بذلك من مرحلة “التلمذة” إلى مرحلة “المهنية”، التي اقتضت منه أن يتجاسر على تغيير الكثير من القوانين؛ حتى يتمكن من ارتكاب أكبر وقائع الفساد على امتداد تاريخ الجمهورية التركية. ووفقاً لتقرير أعدته صحيفة “بيرغون” في مايو 2018، فقد تم تعديل قانون المناقصات العامة 186 مرة خلال فترة تولي حزب العدالة والتنمية، التي استمرت 187 شهرًا. ومع هذا، سيكون من السذاجة إذا قلنا إنهم كانوا يطوعون القانون في كل مرة لتوافق أفعالهم، ولكن التفسير الأكثر منطقية، هو أنهم يقومون بتكييف القوانين؛ حتى يتمكنوا من تحقيق عوائد أكبر من السرقات، والاستيلاء على أموال الشعب التركي. وأعتقد أن هذا التفسير غير مكتمل كذلك؛ لأن هناك أغراضاً أخرى دعتهم للإقدام على أمر كهذا. وهذه الأغراض كانت من متطلبات مرحلة أكثر تطوراً من مرحلة “المهنية”. وأقصد هنا مرحلة “الحِرفية الكبرى”.
كان أردوغان يرتكب وقائع الفساد في مرحلة “المهنية”، من خلال شبكة إجرامية من بطانته. أعد المدعون العامون ملف القضية الخاصة بتحقيقات 17 و25 ديسمبر، الذي يؤكد تورط تلك الشبكة الإجرامية في أعمال فساد. دعونا نلقي نظرة على محتوى هذين الملفين:
تحقيقات فساد 17/25 ديسمبر:
لقد تفجرت أحداث تحقيقات 17/25 ديسمبر مثل القنبلة إبان مرحلة “المهنية” لدى أردوغان، والتي استمرت قرابة عشر سنوات؛ ففي صباح يوم 17 ديسمبر 2013، صدر القرار، بناءً على أوامر من المدعين العامين جلال كارا ومحمد يوزجتش، وتحت إشراف نائب المدعي العام في إسطنبول زكريا أوز بالقبض على 89 شخصاً من بينهم باريش غولر نجل وزير الداخلية آنذاك معمر غولر، وصالح قَاعان نجل وزير الاقتصاد آنذاك ظفر جاغلايان، وعبد الله أوغوز بيرقدار نجل وزير البيئة آنذاك أردوغان بيرقدار، والمدير العام لمصرف “خلق بنك” سليمان أصلان، ورجلي الأعمال علي أغا أوغلو ورضا ضراب، ورئيس بلدية فاتح مصطفى دمير، ووجهت إليهم جميعاً تهم “الرشوة وسوء استغلال مناصبهم والتورط في قضايا فساد”.
بناءً على ذلك، بدأت حكومة حزب العدالة والتنمية في 18 ديسمبر في إقالة العديد من رجال الأمن من رتب مختلفة من عملهم في مديرية الأمن في إسطنبول، من بينهم خمسة من مديري الأفرع، الذين أشرفوا على عمليات إلقاء القبض تلك. وفي يوم 19 ديسمبر، تم إبعاد قائد شرطة إسطنبول حسين تشابكين، وتعيينه في مكان آخر.
في 17 ديسمبر، تم تسريب مكالمة تليفونية على وسائل التواصل الاجتماعي، كان لها وقع الصاعقة على آذان الشعب التركي؛ إذ سمع الجميع صوت أردوغان، وهو يطلب من ابنه بلال أن يتخلص من الأموال الموجودة بالمنزل. وعلى الطرف الآخر، سمعنا بلال يقول إنه على الرغم من أن جميع أفراد العائلة قد تجمعوا، وقاموا، طوال 36 ساعة، بتهريب الأموال إلى عناوين مختلفة، إلا أنه لا يزال في المنزل ما يقارب مليون يورو. وتلا ذلك، بعدة أيام، اعتراف أدلى به بيركتار على شاشة قناة NTV التلفزيونية التركية، طالب من خلاله أردوغان بتقديم استقالته مُحملا إياه مسؤولية كل وقائع الفساد التي حدثت.
وفي 25 ديسمبر 2013، أصدر المدعي العام معمر أق كاش أمره بإلقاء القبض على 41 شخصاً، في إطار التحقيقات مع 96 شخصية، من بينهم بلال أردوغان نجل رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان، على خلفية اتهامات بـ “تأسيس منظمة تورطت في أعمال غير مشروعة وإدارتها، والتورط في جرائم فساد ورشوة”. وأصدرت المحكمة، في ذلك الوقت، حكمها بالتحفظ على أموال بعض رجال الأعمال. أما بلال أردوغان، فقد تم استدعاؤه للشهادة، بصفته أحد المشتبه بهم، ولكن بتدخل مباشر من أردوغان، لم ينفذ ضباط الشرطة المُعينون حديثاً في مديرية الأمن أوامر المدعي العام، بل وفوجئ الجميع بعزل المدعي العام من منصبه.
ولم يقتصر الأمر على هذا الحد، بل قامت حكومة أردوغان بعمل تغييرات واسعة في نطاق مديرية الأمن في أنقرة كذلك؛ عزلت على إثرها العديد من الضباط. أما ضباط الشرطة في مديرية الأمن، الذين شاركوا في التحقيقات الخاصة بتلك القضية، فقد تم القبض عليهم جميعاً تقريباً بتاريخ 22 يوليو 2014، ولا يزالون في السجن إلى الآن.
وقامت حكومة أردوغان بعد واقعة 17/25 ديسمبر مباشرة بسن العديد من القوانين؛ لحماية الذين تورطوا في وقائع الفساد. وعلى الرغم من أن المحكمة الدستورية قد ألغت هذه القوانين بعد ذلك، إلا أن هذا تم بعد أن أدت الغرض منها. اتجه أردوغان بعد ذلك إلى ممارسة ضغوطه وسطوته على القضاء، وتم توجيه الاتهام إلى كل من المدعين العامين جلال كارا ومعمر أق كاش بتهمة “استغلال منصبيهما”، ووجه إلى القاضي سليمان كارا شول تهمة “الإهمال في تأدية عمله”، تمشياً مع تقرير أعده المفتشون الجدد في المجلس الأعلى للقضاة والمدعون العموميون. وفي وقت لاحق، خضع المدعون العموميون زكريا أوز وجمال كارا ومحمد يوزجتش ومعمر أق كاش للتحقيق على خلفية اتهامات ﺒ “الانضمام لمنظمة إرهابية والتدبير لمحاولة انقلاب”، وتم إصدار مذكرة توقيف بحقهم.
أما الوزراء، الذين تورط أبناؤهم في وقائع قضايا الفساد، فقد تقدموا باستقالاتهم. وعلى الجهة المقابلة، تم عزل رجال الشرطة والمدعين العموميين؛ عقاباً لهم على تأدية واجبهم، والكشف عن وقائع الفساد في واقعة لا تمت للمنطق بصلة.
وفي نهاية المطاف، أسفرت التحقيقات، التي أجراها المدعي العام الجديد أكرم أيدينَر، الذي عُيِّن خلفاً للمدعين العموميين، الذين عُزلوا من مناصبهم، عن عدم وجود أدلة كافية لإدانتهم، وعدم توافر أركان الجريمة، وعن عدم وجود دليل يشير إلى انتمائهم إلى منظمة إرهابية. وبالتالي صدر قرار بالإفراج عنهم. وجاء في قرار الإفراج كذلك “كانت تحقيقات 25 ديسمبر 2013 محاولة للإطاحة بحكومة جمهورية تركيا، تحت ستار إجراء تحقيق قانوني. وهذا يعني أن المدعي العام يصف تحقيقاً قانونياً، أجرته النيابة العامة في قضايا فساد، بمحاولة الانقلاب على الحكومة.
تلا هذا قيام الحكومة التركية، برئاسة أردوغان، بإصدار العديد من القوانين المُقيدة للحريات. وعندما ننظر إلى روح هذه القوانين، فإننا ندرك أنها تتضمن عددًا من البنود واللوائح، التي تحول دون تقديم أردوغان وبطانته للمساءلة في قضايا فساد. وبالفعل بدأت الحكومة في توجيه تهمة الانقلاب إلى أي شخص يتحدث عن الفساد؛ لينتهي به الأمر، في نهاية المطاف، إلى السجن. وبهذا يكون أردوغان قد وضع “فزَّاعة” ضخمة في مواجهة الشعب التركي بأكمله.
هل يجرؤ أحد الآن أن ينتقد أردوغان أو أن يحقق معه أو مع أي من أسرته، في مرحلة يزج فيها إلى السجون كل من يشارك بتغريدة معارضة لأردوغان؟ وعلى الجهة الآخر، تحوَّل رجال الشرطة والقضاة والمدعون العموميون، الذين يُفترض أنهم يحمون مكتسبات الأمة، إلى حراس متطوعين لفساد الحاكم وبطانته، ولكن أعود وأقول إن مرحلة “الحِرفية الكبرى”، التي أدركها أردوغان الآن، تقتضي هذه الأمور.
هل تساءلتم يوماً إن كان هدف أردوغان الحقيقي من وراء المشروعات العامة مثل الجسور والطرق والمطار الجديد والمستشفيات والمدارس وغيرها من المشروعات، التي يتباهى بها اليوم، هو النهوض بتركيا حقاً، ورفع مستوى معيشة الفرد، أم أنها وسيلة لتوسيع نطاق فساده وإضافة ثروات إلى ثروته؟ في الواقع، إن البيانات المتاحة لدينا تؤكد جميعها أن تركيا في تراجع مستمر، مقارنة بنظيراتها من دول العالم، وأن الشعب التركي يزداد فقراً، بالتزامن مع ارتفاع التضخم، وارتفاع نسبة البطالة. وعلى الجانب الآخر، يزداد أردوغان وأسرته وزمرة ضيقة من المحيطين به ثراءً يوماً بعد يوم. وهذا يعني أنه لم يعمل يوماً من أجل رفاهية الشعب كما يدعي..